قصص قصيرة

قصة قصيرة.. الفن ومدارس الصين

لقد نشأت في فن التصوير الصيني مدرستان مختلفتان إحداهما في الشمال والثانية في الجنوب، كما نشأت في الديانة الصينية مدرستان هي المدرسة الكنفوشية والمدرسة الدوِّية – البوذية، وكما نشأت في الفلسفة مدرستان إحداهما بزعامة جوشي والثانية بزعامة وانج يانج منج، تمثل الأولى ما يطلق عليه الغربيون العقلية الاتباعية، وتمثل الثانية العقلية الابتداعية، فكان الفنانون الشماليون يتمسكون بالتقاليد الصارمة ويتقيدون في رسومهم بقيود العفة والوقار؛ أما أهل الجنوب فكانوا يعنون في تصويرهم بإبراز المشاعر والخيال.

وعنيت المدرسة الشمالية أشد عناية بإبراز نماذج صحيحة متقنة من الأشكال التي تصورها وجعلها واضحة الخطوط والمعالم، أما المدرسة الجنوبية فقد ثارت كما ثار منتمارتر Montmarter على هذه القيود، فكانت تحتقر هذه الواقعية البسيطة ولا تستخدم الأشياء إلا عناصر في تجارب روحية، أو نغمات في مزاج موسيقي. ولقد وجد لي سو – شون وهو يصور في بلاط منج هوانج بين زعازع السلطة السياسية وعُزلة النفي ما يكفي من الوقت لتوطيد دعائم المدرسة الشمالية. وصور هو نفسه بعض المناظر الصينية الطبيعية وبلغ فيها درجة من الواقعية تناقلتها فيما بعد كثير من الأقاصيص.

من ذلك قول الإمبراطور أنه يستطيع أن يستمع في الليل إلى خرير الماء الذي صوره لي على شاشة في قصره، وإن سمكة في صورة أخرى له دبت فيها الحياة ووجدت بعد في بركة وليس لنا أن نلوم الصينيين على هذه الأقوال، فإن لكل أمة أقوالاً مثلها في مدح مصوريها”.

وانج وي..

ونشأت المدرسة الجنوبية مما أدخل على الفن من تجديد ومن عبقرية وانج واي، فلم يكن المنظر الطبيعي في طرازه التأثيري من طرز الفن أكثر من رمز لمزاج معين، وكان وانج شاعراً ومصوراً معاً، ولذلك عمل على ربط الفنين بعضهما ببعض، وذلك يجعل الصورة تعبر عن قصيدة. وفيه قال الناس لأول مرة العبارة التي طالما لاكتها الألسن حتى ابتذلت، والتي تنطبق كل الانطباق على الشعر والتصوير الصينيين كليهما وهي: “كل قصيدة صورة وكل صورة قصيدة” وكان يحدث في كثير من الأحيان أن تنقش القصيدة على الصورة وأن تكون القصيدة نفسها مخطوطاً فنياً جميلاً. ويروى المؤرخون أن تونج جي- جانج قضى حياته كلها يبحث عن صورة أصلية من عمل وانج ويه”.

وو دَوْ – دزه..

وأعظم المصورين في عهدة أسرة تانج، وأعظم المصورين في الشرق الأقصى كله بإجماع الآراء، رجل علاً فوق فروق مدرستي التصوير السالفتي الذكر، وكان من الذين حافظوا على التقاليد البوذية في الفن الصيني، واسم هذا المصور وو دَوْ – دزه؛ ولقد كان في الحق خليقاً باسمه فإن معنى هذا الاسم هو وو أستاذ الدو أو الطريقة، ذلك أن جميع التأثرات والأفكار المجردة، التي وجدها لو دزه وجوانج دزه أدق من أن تعبر عنها الألفاظ، وقد بدت وكأنها تنساب انسياباً طبيعياً في صورة خطوط وألوان يجري بها قلمه، ويصفه أحد المؤرخين الصينيين بقوله: “إنه كان شخصاً معدماً يتيماً، ولكنه وهب فطرة إلهية، فلم يكد يلبس قلنسوة البلوغ حتى كان من أساتذة الفن، وحتى غمر لو – يانج بأعماله”.

وتقول الروايات الصينية إنه كان مغرماً بالخمر وبأعمال القوة، وإنه كان يعتقد أن الروح تخرج أحسن ثمارها تحت تأثير قليل من السكر. وقد برز في كل موضوع صوره؛ في الرجال والأرباب والشياطين وفي تصوير بوذا بأشكال مختلفة، وفي رسم الطيور والوحوش والمباني والمناظر الطبيعية – وكانت كلها تأتيه طائعة لفنه الخصيب؛ وبرع في الرسم على الحرير والورق والجدران الحديثة الطلاء فكانت هذه كلها عنده سواء.

وقد أنشأ ثلاثمائة مظلم للهياكل البوذية منها مظلم يحتوي على صورة ألف شخص لا تقل شهرته في الصين عن شهرة “يوم الحساب” أو صورة “العشاء الأخير” في أوربا. وكانت ثلاث وتسعون صورة من صوره في معرض الصور الإمبراطوري في القرن الثاني عشر بعد أربعمائة سنة من وفاته، ولكنها لم يبق منها شيء في مكان ما في الوقت الحاضر. ويحدثنا الرواة أن الصور التي رسمها لبوذا “قد كشفت عن أسرار الحياة والموت”. وقد بلغ من تأثير صوره التي تمثل الحشر أن ارتاع من رؤيتها بعض القصابين والسماكين فنبذوا حرفتيهم المشينتين غير البوذيتين.

ولما رسم صورة تمثل رؤيا منج هوانج أيقن الإمبراطور أن وو قد رأى هو أيضاً رؤيا مثلها. ولما أرسل الملك وو ليرسم منظراً على ضفة نهر جيالنج في ولاية سشوان هاله أن لا يعود الفنان دون أن يرسم خطاً واحداً، فقال له وو: “لقد وعيته كله في قلبي”. ثم انفرد بنفسه في حجرة من حجر القصر وأخرج، كما يؤكد لنا المؤرخون، مناظر تمثل ألف ميل.

ولما أراد القائد باي أن ترسم له صورة طلب إليه وو ألا يقف أمامه ليرسمه، بل أن يلعب بالسيف، فلما فعل أخرج المصور له صورة لم يسع معاصريه إلا أن يقولوا أنها قد أوحي إليه بها ولم تكن من عنده.

وقد بلغ من شهرته أن أقبلت “شانج – آن” على بكرة أبيها لتشاهده وهو يختتم رسم بعض الصور البوذية في هيكل شنج شان. ويقول مؤرخ صيني من مؤرخي القرن التاسع إنه لما أحاط به هذا الجمع الحاشد “رسم الهالات بسرعة عجيبة عنيفة بدا للناس معها كأن يده يحركها إعصار، وصاح كل من رآه أن إلهاً من الآلهة كان يساعده”: ذلك أن الكسالى لا يفتئون يعزون العبقرية “لوحي” يوحى لمن ينتظر هذا الإيحاء.

 

وتقول إحدى القصص الطريفة إنه لما طال الأجل بوو رسم منظراً طبيعياً كبيراً، ودخل في فم كهف مصور في هذا المنظر، ولم يره أحد بعد دخوله فيه. ولا جدال في أن الفن لم يصل قط إلى ما أوصله إليه هو من إتقان وإبداع”.

شهوة الفن..

وأصبح الفن في عهد أسرة سونج شهوة عارمة عند الصينيين، ذلك أنه بعد أن تحرر من سيطرة الموضوعات البوذية عليه غمر البلاد بما لا يحصى من الصور المختلفة، ولم يكن الإمبراطور هواي دزونج نفسه أقل الثمانمائة الرسامين المشهورين في أيامه.

ومن الكنوز المحفوظة بمتحف الآثار الجميلة ببسطن ملف صوّر فيه هذا الإمبراطور في بساطة عجيبة ووضوح أعجب المراحل المختلفة التي تسير فيها عملية إعداد الحرير على يد النساء الصينيات. ومن أعماله أنه أنشأ متحفاً للفن جمع فيه أكبر مجموعة من الروائع الفنية عرفتها الصين من بعده؛ وأنه رفع المجمع الفني من فرع تابع للكلية الأدبية لا غير إلى معهد مستقبل من الدرجة الأولى، واستبدل الاختبار في الفن ببعض الاختبارات الأدبية التي جرت العادة بأن يمتحن فيها طلاب المناصب السياسية، ورفع رجالاً إلى مناصب الوزراء لأنهم برعوا في الفن بقدر ما رفع إليها غيرهم لأنهم برعوا في السياسة.

وسمع التتار بهذا كله فغزوا الصين وأنزلوا الإمبراطور عن عرشه، ونهبوا المدينة وعاثوا فيها فساداً، ودمروا كل الصور المحفوظة في المتحف الإمبراطوري إلا القليل، وكانت سجلات هذه الصور تملأ عشرين مجلداً. وساق الغزاة الإمبراطور الفنان أمامهم ومات في ذل الأسر”.

جوو شي، ولي لونج – مين..

وكان أجل من هذا الإمبراطور الفنان شأناً رجلان من غير الأسر المالكة هما جوو شي، ولي لونج – مين. “ويقول الناقدون والفنانون إن جوو شي بز جميع معاصريه في تصوير أشجار الصنوبر الباسقة، والدوحات الضخمة، والمياه الدوامة، والصخور الناتئة، والجروف الوعرة، وقلل الجبال السامقة التي لا يحصى عديدها” . وكان لي لونج – مين فناناً وعالماً وموظفاً ناجحاً ورجلاً سميذعاً يجله الصينيون ويرون فيه مثلاً أعلى لما يجب أن يكون عليه الصيني المثقف. وقد بدأ أولاً بالخط ثم انتقل منه إلى الرسم بالخطوط ثم بالألوان، وقلما كان يستخدم في هذا كله شيئاً غير المداد؛ وكان يفخر بمحافظته الشديدة على تقاليد المدرسة الشمالية، ويبذل جهوده كلها في ضبط الخطوط ودقتها.

وقد برع في رسم الخيل براعة بلغ منها أن اتهمه الناس حين ماتت ستة منها بأن الصورة التي رسمها لها قد سلبتها أرواحها؛ وإن حذره كاهن بوذي من أنه سيصبح هو نفسه جواداً إذا دأب على العناية برسم الجياد بدقته المعهودة، فما كان منه إلا أن قبل نصيحة الكاهن وصور خمسمائة لوهان . وفي وسعنا أن ندرك شهرته إذا عرفنا أن معرض هواي دزونج الإمبراطوري حين نُهب كان يحتوي على مائة صورة وسبع صور من عمل لي لونج – مين وحده”.

 

أساتذة الفن..

ونبغ في عهد أسرة سونج عدد كبير من أساتذة الفن، نذكر منهم مي فاي وهو عبقري غريب الأطوار، كان لا يُرى إلا وهو يغسل يديه أو يغير ملابسه إذا لم يكن يشتغل بجمع أعمال رجال الفن القدماء، أو يرسم صوراً لمناظر طبيعية “بطريقة التنقيط” أي بنقط من المداد يضعها دون أن يستعين بالخطوط الخارجية . ومنهم أيضا شيه جواي وقد رسم ملفاً طويلاً يحتوي على مناظر متفرقة بنهر يانج – دزه من منابعه الصغيرة، ومجراه، مخترقاً اللويس والخوانق إلى مصبه الواسع الخاص بالسفن التجارية وبالقوارب الصغيرة (السمبان)؛ وهذا الملف قد جعل بعض الفنانين يضعون صاحبه على رأس مصوري المناظر الطبيعية في الشرق والغرب على السواء.

ويزدان متحف الفن الجميل في بسطن بمناظر طبيعية أنيقة، ومناظر مصورة عن بعد ومن أروع الصور صورة “السيدة لنج – جاو واقفة بين الثلوج”. والصورة تمثل السيدة (وهي صوفية بوذية من نساء القرن الثامن) ساكنة غارقة في التفكير كأنها سقراط واقف وسط الثلوج في بلاتيه. ويخيل إلينا أن الفنان يقول “إن العالم لا وجود له إلا إذا أدرك العقل وجوده، وإن في وسع العقل أن يتجاهله إلى حين”.

ومنهم ليانج كاي الذي رسم صورة فخمة للشاعر الصيني لي بو؛ وموتشي صاحب صورة النمر الرهيب، والزرزور، وصورة كوان ين الظريف المكتئب؛ وفي وسعنا أن نذكر غير هؤلاء كثيرين من المصورين الصينيين الذين لم يألف الغرب سماع أسمائهم أو يعيها إذا سمعها لغرابتها، ولكنهم في واقع الأمر نماذج من تراث الشرق العقلي العظيم. وما أصدق ما قاله عنهم فنلوزا Fenollosa: “لقد كانت ثقافة أسرة سونج أنضج تعبير عن العبقرية الصينية”.

تدمير..

وإذا شئنا أن نقدر فن التصوير الصيني في أيام مجد أسرتي تانج وسونج، كنا كمن يحاولون من مؤرخي المستقبل أن يكتبوا عن عصر النهضة الإيطالية بعد أن فقدت جميع أعمال رفائيل وليوناردو دافنشي وميكل إنجلو. ويبدو أن فن التصوير الصيني قد هدر دمه لما توالى عليه من غارات جحافل البرابرة الذين دمروا روائعه وعاقوا تقدمه قروناً عدة. ومع أنه قد نبغ في عهد الأسر التي تربعت على عرش الصين بعد أسرتي تانج وسونج، الصينية منها والأجنبية، فنانون لهم رسوم بلغت مستوى عظيماً من الظرف أو القوة، فليس من هؤلاء الفنانين من يرقى إلى مستوى أولئك الرجال الذين عاشوا في جنان بلاط منج هوانج أو هواي دزونج.

إذا فكرنا في الصينيين لا نفكر فيهم على أنهم مجرد شعب سلطت عليه الفاقة، وأضعفه فساد الحكم، وفرقته التحزبات والانقسامات السياسية، وأذلته الهزائم الحربية، بل يجب أن نفكر فيهم أيضاً على أنهم أمة شهدت في تاريخها الطويل عصوراً لا تقل في مجدها عن عصور بركليز وأغسطس وآل مديشي، وأنها قد تشهد عصوراً أخرى مثلها في مستقبل الأيام”.

اترك تعليقاً

شاهد أيضاً
إغلاق

انت تستخدم اداة مانع الاعلانات

لتستطيع تصفح الموقع بسهولة من فضلك اغلق اداة مانع الاعلانات