قصص قصيرة

قصة قصيرة.. صفحة بيضاء!

وانتهى الأمر هكذا كطرفة علمية بين الطبيب النفسي الشهير والمراجع، ولكن في عام 1983 نشر الأسترالي جيوفري موللوي Geoffrey N. Molloy ورقة بحثية مشابهة تحت عنوان «معالجة ذاتية غير ناجحة لحالة سدة الكاتب: تكرار» The unsuccessful self-treatment of a case of «writer’s block: A replication»، نُشرت بمجلة Perceptual and Motor Skills العلمية مرموقة، وأعقبه الأمريكي كينيث أولسون Kenneth R. Olson في نفس المجلة ببحث مرجعي عن نفس النقطة؛ «معالجة ذاتية غير ناجحة لحالة سدة الكاتب».

لم يتوقف الأمر عند تلك النقطة، فما كان مزاحًا بالأمس صار واقعًا يجب التعامل معه وتداوله اليوم، ولهذا جاءت أبحاث بروس هيرمان Bruce P. Hermann (1984)، وفريق سكينر Nicholas F. Skinner البحثي من جامعة أونتاريو في كندا (1985)، وسكينر Skinner وبيرليني Arthur H. Perlini (1996)، وديدن Robert Didden وفريقه البحثي الهولندي (2007)، ومكلين Derrick C. McLean وتوماس Benjamin R. Thomas (2014)، وينضم الأمريكي آرتينو الصغير Anthony R. Artino Jr إلى قائمة المحاولات عام 2016 لتكرار معالجته غير الناجحة لمعضلة سدة الكاتب في تلك السلسلة من التكرارات ذوات الصفحات البيضاء، والتي علق عليها ماثيو برودهيد Matthew Brodhead الباحث بجامعة ميتشجن الأمريكية Michigan State University في لقائه المنشور 2018 بموقع Retractionwatch: «الباحثون يقومون بتكرار بحث كلاسيكي عن المحاولات غير الناجحة لسدة الكاتب وبعد ذلك يحاولون الكتابة عنها»، ليصدر بحثه الأخير في مجلة Behavior Analysis in Practice عام 2019 ويختتم تلك السلسلة من الأبحاث التي تتناول هذه النقطة من التكرارات وبنفس الصورة.

سدة الكاتب هو مجرد عذر، لا شيء غير ذلك.

—جيف جوينز – مؤلف ومُدوِّن ومُحاضِر أمريكي.

سدة الكاتب، أو عقدة الكاتب Writer’s block والتي يُحتمل وجودها منذ ظهور فن الكتابة منذ زمن بعيد في تاريخ البشرية، ولكن لأول مرة يتم استخدام ذلك الاصطلاح في الدوائر الأدبية على يد عالم النفس الشهير إدموند بيرجلر Edmund Bergler أحد الرواد الأوائل بمدرسة سيجموند فرويد Sigmund Freud، حين قدمَ تعريفًا لعقدة الكاتب في كتابه «الكاتب والتحليل النفسي» The Writer and Psychoanalysis بمنتصف أربعينيات القرن العشرين، عند دراسته للأسباب والظواهر النفسية التي توجد عند بعض الكتاب الذين يعانون من تثبيط عصبي في نشاطهم الإنتاجي.

وسؤال هل حقًا سدة/عقدة الكاتب موجودة؛ إنما هو عنوان بحث بيرجلر بمجلة أمريكان إيماجو American Imago التي موّلها فرويد شخصيًا في أمريكا عام 1939 حيث قَدَّمَ تشخيصًا لتلك الحالة:

الناس يتحدثون عن حالة التثبيط الإبداعي التي تصيب الكُتّاب؛ فالكاتب يعلن عن قضيته خلال كتابته أي الماسوشية الشفوية، وينغمس في الغضب الفطري الناتج من الأم التي فطمته الحليب صغيرًا، أي أنه تم حظره، وهو قد شعر بالجوع/الحرمان من قبل، فاختار الكاتب أن يتضور جوعًا مرة أخرى. (1)

وأعلن بيرجلر في كتاباته أنه عالج أكثر من أربعين كاتبًا يعانون من سدة الكتابة بمعدل نجاح 100%. وأضاف أن هذا لا يعني أن الكتاب أصبحوا مثل الآخرين، فبحسب تعبيره «لم أر قط كاتبًا عاديًا»، حتى لو كان عملهم يسير على ما يرام، فلقد كانت هذه الحالة غالبًا محاطة تمامًا بالعصبية في الحياة الخاصة، وتلك المتعلقة بشئون الحب السليم، أو الشذوذ الجنسي، أو ما إلى ذلك مما قد يكون له تأثير على خط سير أفكار الكاتب وطريقة تعبيره عن رؤيته الخاصة من خلال كتاباته.

كيف يمكن وصف تلك الحالة؟

الكتابة جزء من الجحيم، فهي تجعلك في شكٍ دائم: هل استطعت التعبير عما أريد؟ هل وفّقت في كلماتي؟ هل النص جذاب؟ كيف أنهي القصة؟ ثم تأتي اللحظة الأسوأ: هل هناك قصة أخرى بعد هذه؟ هنا تبدأ أيام من التوقف، والأيام تصير أسابيع فشهورًا ربما… ما يسمونه متلازمة الصفحة البيضاء، حيث تظل لساعات ترمق صفحة خالية منتظرًا أن ينفتح في الورق ذلك الباب السحري، الذي يقودك لعالم الرواية؛ هذه هي سدة الكاتب Writer’s block كابوس الأدباء المروع.

د. أحمد خالد توفيق – كتاب «اللغز وراء السطور».

«ماريا كوننيكوفا» Maria Konnikova الروائية والصحفية بجريدة The New Yorker قدمت مقالاً بعنوان «كيف يمكن التغلب على سدة الكتابة»، عرضت فيه تجربة قام بها جيروم سينجر Jerome Singer ومايكل باريوس Michael Barrios العالمان النفسيان بجامعة يال Yale University خلال سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، على مجموعة من الكُتّاب سواء كُتّاب الأدب الخيالي أو الواقعي Fiction and non-fiction لقياس ومعرفة مفهوم أن يكون الكاتب متوقفًا أو عاجزًا عن الإبداع، وجدوا أن هؤلاء الكُتّاب يعانون حالة من الإحباط والاكتئاب والقلق ويشتركون في شعورهم بفقدان السعادة.

ووجدوا كذلك أن الكُتّاب في تلك الحالة ترتفع لديهم أعراض النقد الذاتي وتقليل الإثارة والفخر في العمل، ظهرت أيضًا أعراض اضطراب الوسواس القهري مثل التكرار، والشك في النفس، والمماطلة، وكذلك الشعور بالعجز والنفور من العزلة، وهي مشكلة كبيرة؛ حيث إن الكتابة كنشاط إبداعي تستلزم عادةً وقتًا يقضيه الكاتب منعزلاً عن الآخرين.

يُصاب البعض كذلك بمتلازمة الرواية الثانية Second-Novel Syndrome؛ فالكاتب ينتج رواية أولى ناجحة ويتهيأ لكتابة روايته الثانية فيجد دماغه مقيدًا. الروائي الأمريكي جيفري يوجينيدس Jeffrey Eugenides كتب روايته الأولى عام 1993 «انتحارات عذراء» The Virgin Suicides وقد حققت نجاحًا كبيرًا، ومبيعات عالية، وكذلك تم تحويلها لفيلم سينمائي، بينما خرجت روايته الثانية «ميدلسكس» Middleses  بعد تسع سنوات في عام 2002 لتفوز بجائزة البوليتزر Pulitzer Prize، وحين سُئل يوجينيدس عن السبب في تلك المدة الطويلة؛ أجاب بأنه كان أكثر طموحًا عند كتابته ميدلسكس عن انتحارات عذراء.

سدة الكتابة: هل هناك حلول، أم المزيد من الصفحات البيضاء؟

عندما يشعر المرء أنه يعاني من سدة الكتابة، فمن الجيد الاستمرار في وضع الأمور على الورق.

—سكوت كوفمان، باحث علم النفس، جامعة بنسلفانيا.

قد يكون تعلم القيام بعمل إبداعي من أي نوع -وليس فقط التمارين المباشرة للكتابة المستمرة- مفيد في مكافحة سدة الكاتب، كما تضمن مقال جريدة The New Yorker المنشور عام 2004 تحت عنوان Blocked «لماذا يتوقف الكتاب عن الكتابة؟»

يستعرض المقال عدة آراء لكُتّاب مشهورين وعلماء وباحثين يتناولون حلولاً لمعضلة سدة الكاتب. سكوت كوفمان، الطبيب النفساني والمدير العلمي لمعهد الخيال في جامعة بنسلفانيا، أصبح مقتنعاً بأن السماح بالخطأ وإدراك كيف يمكن أن يكون إبداع العملية غير الخطية خطوة أساسية للتغلب على سدة الكتابة.

يقول سكوت:

أعتقد أنه يجب على المرء أن يثق في عملية الكتابة، وأن الإبداع يتطلب تعقيدًا من الكلمات المكتوبة والأفكار التي تدور داخل عقل المؤلف وتبحث عن وسيلة للخروج، المعقد الفريد من نوعه، والمبدعون يقومون بالكثير من التجربة والخطأ في سبيل ذلك، ونادرًا ما يعرفون إلى أين تأخذهم التجربة وأين يذهبون بالضبط حتى يصلوا إلى غايتهم… حيث الإبداع، وهو الهدف المنشود.

يبدو أن هذا هو العلاج الناجع لسدة الكتابة: الهروب من الحكم الخارجي (الناتج من الآخرين) والداخلي (الناتج من تقييم الكاتب لذاته)، عن طريق الكتابة، وحالات الهروب هذه للكُتاب تُشعِرهم بالراحة في وجه عدم اليقين؛ إنهم يمنحون عقولهم حرية التخيل، حتى لو كانت الأشياء التي يتخيلونها تبدو مضحكة وغير مهمة وغير مرتبطة بأي مشروع معروف.

شاهد أيضاً
إغلاق

انت تستخدم اداة مانع الاعلانات

لتستطيع تصفح الموقع بسهولة من فضلك اغلق اداة مانع الاعلانات