قصص قصيرة

قصة قصيرة.. محاولات استنساخ البشر

ترتبط محاولات صنع البشر بعلم الكيمياء بشكل وثيق، فهي وليدة أفكار الكيمياء التحويلية، والتي ترى أن جميع الأشياء ترتد لطبائع أربع أولية. من هذه الطبائع الأولية نشأ كل الكون، ولذلك إن اشتركت كل الموجودات في التركيب الجوهري، أصبح التحويل من مادة إلى مادة أمرًا سهلًا يسيرًا، وفقًا لمعادلة تقول بأن النواتج لابد وأن تساوي المتفاعلات.

وبعيدًا عن المزيد من الشرح –والذي سنوجزه فيما بعد– عن الطبائع الأولية، ترى الكيمياء أنه من الممكن تكوين أو خلق أي كائن بناءً على أساليب معينة، وهنا تأخذنا الكيمياء إلى شقٍ آخر فيها وهو الكيمياء التكوينية، وهو شق ليس ببعيد عن فلسفتها التحليلية، إنما هو خطوة إضافية حيث تضيف خطوة التجميع، فيكون جوهر فلسفة التكوين في الكيمياء هو تحليل الموجودات إلى أبسط صورة، ومن ثَمَّ تجميع تلك الصور كيفما أراد المُجرِّب، وما هذا ببعيد عن تكوين المركبات الكيميائية.

ولكن قبل أن ننتقل للكيمياء في الحضارة الإسلامية، إذا ما ألقينا نظرة على وجود فكرة صناعة البشر في أوروبا وعن العلماء الذين قد صدحوا بتلك الأفكار، نجد أن القرن السادس عشر الميلادي قد شهد أول محاولة لصنع بشري، فكان ذلك على يد «براكلسوس» عالم الكيمياء الذي ذكر في كتاباته عن محاولته صناعة إنسان في تجربة استخدم فيها منيًّا بشريًا يُحمى عليه بروث حصان وهي ما تسمى بطريقة التعفين

وجدير بالذكر أنه قد ذكر أن الإنسان الناتج لا يكون بهيئة الإنسان الطبيعي، بل لربما كان أصغر بكثير أو أكبر بكثير، وتسمى «هومنكلس». ويعتبر براكلسوس أول من لقّب هذه الكائنات بالهومنكلس، وهم البشر المُصنعون. ولكن قبل براكلسوس ببضعة قرون، ذكر التاريخ محاولات إسلامية في خلق البشر، وكان ذلك على يد الكيميائي المسلم جابر بن حيان مؤسس علم التكوين.

جابر بن حيان: أينما حلّ كان حوله جدال

جابر بن حيان هو شخصية جدلية إلى أبعد الحدود، فقد بلغ الخلاف حوله لحد إنكار وجوده أصلًا. وإذا أقررنا وجوده، يكون الخلاف حول مولده. وإذا كان مولده بأواخر القرن الثامن، نجد من يستكثر عليه تأليف كتبه بنفسه، وما هذا إلا افتراء. وإن جابر بن حيان نفسه لم يكن إلا باحث عن الجدال؛ فهو من الشيعة سياسة ومن الفلاسفة جدلًا ومن الكيميائيين علمًا وفي الأخير صوفي، ولكن في الحقيقة آراء جابر بن حيان الفلسفية تخلق جدلًا أكبر بكثير من هذا.

يا معشر الناس ابحثوا واطلبوا لتفلحوا بهذه الأنوار العالية، فإنه ليس براقٍ من أغفل صناعة الفلسفة، لكنه راسب مضمحل إلى الأسفل دائمًا.

كان هذا جابر بن حيان فيلسوف التجارب العلمية، صاحب منهج تجريبي يعتمد على الاستنباط والاستقراء. هذا المنهج نعتمده اليوم كمنهج أساسي للبحث العلمي، وهذا المذهب هو ما يضيف مصداقية لآرائه ونرجسية لشخصه، ناتجة من ثقة رهيبة، إذ إن آراء جابر –وبالذات العلمية– لابد في نظره أن تعتمد على التجربة.

الفلسفة الكونية عند جابر بن حيان

إن جابر قد أخذ فلسفته الخاصة بنشأة الكون والكائنات عن الفلسفة اليونانية، والتي تقول بأن هناك عناصر أولية نشأ عنها كل الكون: وهي الحرارة، والبرودة، واليبوسة، والرطوبة. من هذه الأصول نشأت المركبات ومنها نشأ الكون، ولتقريب ذلك لمفهومنا العصري نقول إنه إذا كانت الحرارة في جوهرها حركة والصلابة تقاربًا في ذرات الجسم الصلب، فهذه العناصر يمكن أن تكون بلغة اليوم هي حركة الذرات، تزيد لتكون حرارة والعكس برودة، وإذا تزاحمت كانت صلابة والعكس ليونة.

ولا ينتهي جابر هنا، بل يزيد إلى أن هناك جوهرًا ما مشتركًا في جميع الكائنات، هو نواة التكوين ويصف جابر هذا الجوهر على أن فيه كل شيء وإليه ينحل كل شيء ويحمل في صفاته العناصر الأولية  وما أشبه هذا بنظرية الأوتار، والتي تقول إن الكون نشأ عن وتر يحوي في صفاته كل الصفات، فيهتز بشكل معين فينتج مركب معين ومنه تتكون مركبات وهكذا دواليك.

كيمياء جابر بن حيان من التحويلية للتكوينية

وهذا يقودنا لما أراده جابر من البداية، وما تأخذنا إليه الكيمياء التحويلية في تحويل الكائنات من واحدٍ للآخر، وهو أن كل الكائنات مشتركة في جوهر تكوينها ومختلفة في صفاتها الخارجية، وبالتالي يسهل تحويل مادة لأخرى من جنسها كمعدن إلى معدن، أو من غير جنسها كنبات إلى حيوان بتغير تلك الصفات، وهنا يقول جابر إن على الكيميائي أن يحذو حذو الطبيعة في تكوينها للأشياء، فكل الفرق هو أن الطبيعة تعمل من تلقاء نفسها أما الكيميائي فيعمل تجربة مدروسة.

ويشير جابر إلى أن الكيميائي المحترف يمكنه أن يتفوق على الطبيعة فينجز ما تنجزه في وقت أقصر بكثير، فلو أن الذهب تنتجه الطبيعة في آلاف السنين يمكن أن ينتجه الكيميائي في زمن صغير جدًا. فوفقًا لفكرة العناصر الأولية، فإن كلاً من الذهب والنحاس يحتوي عليهم جميعًا لأن بهما نفس الجوهر، ولكن هنا يقول جابر إن النحاس ظاهر فيه الحرارة واليبوسة (صلابة)، وفي الذهب يظهر فيه الحرارة والرطوبة (ليونة). فوظيفة الكيميائي هي إظهار الليونة على الصلابة في النحاس لتكوين الذهب.

وكما ذكرنا لا يرى جابر أن التحويل يقتصر على المعادن فقط بل إنه يمتد للكائنات جميعًا، فلو استطاع تحويل النحاس ذهبًا، فيمكنه رد المريض إلى شخصٍ صحيح، وهذا ما يسمى بالكيمياء العلاجية، وسمّاه جابر بالإكسير.

وهنا يمكننا شرح فلسفة التحويل هذه لتقريبها لمفهومنا العصري، فنقول إن جميع المواد تتكون من ذرات وتتكون الذرات من ثلاثة عناصر غير أولية وهي البروتونات الموجبة والإلكترونات السالبة والنيوترونات المتعادلة. فلو علم المرء النسب المطلوبة للحصول على شيء معين لاستطاع تحويل النحاس إلى ذهب سواء بالكيمياء أو الفيزياء – رجاءً طالع مخطط فينمان لفيزياء الجسيمات.

صناعة إنسان من صنع الإنسان

هنا تحديدًا يمكننا شرح فكر جابر في محاولة صنع البشر، فهو يسير مع الكيمياء التحليلية ويلحقها بمرحلة تالية وهي التجميع. فقد اتفقنا أن جميع الكائنات مركبة من ذات العناصر، وعليه فإن الكيميائي الذي يريد تكوين إنسان يمكنه ذلك من خلال تحويل كائن أو مواد أخرى لهذا الإنسان. ولكن هناك شرط، فإن أردت تحويل كائن حي لآخر عليك المرور بمرحلة الجماد. فلو كنت تحول النبات لحيوان عليك المرور بالحجر أو المعدن.

يقول جابر:

إن الإنسان المراد تكوينه لابد وأن تؤخذ قوة عقله أولًا، لأن لا شيء أعلى من عالم العقل، ثم ينظر إلى نفسه وصفاته المراد أن يكتسبها مثل الكرم أو البخل وغيرها، وفي الأخير يأتي النظر للتكوين الجسماني.

ولذلك يرى جابر أن على من يشتغل بالتكوين أن يعي جميع العلوم المرتبطة بالجوانب التي يريد تكوينها، فمن الممكن أن يكون المراد دمية غير عاقلة، وربما كان المراد إنسانًا كاملاً.

ودائمًا ما كانت تؤثر نفوس العلماء من نوعية جابر –كما الحال مع براكلسوس– أن يخلقوا كائنات شاذة مختلفة عن الشكل السائد غير متناسقة الشكل. وهنا يقول د. زكي نجيب محمود في كتابه عن جابر:

إنه ما أقرب الشبه بين هذه الأفكار وما يتحقق هذه الأيام من تطعيم الحيوانات بعضها ببعض، فيُركبّون أعضاء حيوان في حيوان آخر، فها هو جابر يتحدث عن كيفية نقل وجه رجل لجسم جارية.

ويأخذ جابر في تعديد الطرق الممكنة لتكوين إنسان ومنها طريقة التعفين التي اتبعها براكلسوس.

التناقض المفروض بين عقيدة جابر المسلمة وعلم التكوين

إن جابر بن حيان مسلم شيعي صوفي، ومفترض في عقيدة الإسلام أن الخلق إنما من صنيع الله وحده. وها نحن نرى جابر يتحدى الطبيعة في سر من أعظم أسرارها وهو الخلق، وهذا ما أثار استنكار د. زكي نجيب محمود، فيقول: «ولعل أغرب ما في هذا الموضوع أن يصدر عن رجل يعتقد في ديانة تجعل خلق الإنسان من شأن الله، وذا ما لا أجد له تبريرًا»، ولكن يمكننا الرد هنا على د. زكي بحجتين: حجة في شخصية جابر المتصوفة، وأخرى في فلسفة الإسلام.

أما عن الأولى فنجد أن جابر يرى أن العلم إنما مصدره الله ويصل العلم للأنبياء من خلال الوحي، ومن ثَمَّ لباقي الناس فيقول جابر: «فـ والله ما لي في هذه الكتب إلا تأليفها والباقي علم النبي».[13] فربما كان من وجهة نظر جابر أنه لو كان العلم واجب التحصيل، وكان العلم إلهيًا، إذن لوجب إتقان علم التكوين والخلق. وبالنسبة لشخصية جابر المتصوفة، فهو استلهم من المدرسة الأفلاطونية أن كثرة العلم تأتي بالتقرب من الله.

أما ما في فلسفة الإسلام، فهو ما يقول بأن الله قد جعل الإنسان خليفة له، وهنا نسأل: أوَ ليس كلما زاد التشبه بالمخلوف –الله– كلما أصبحنا خلفاء بحق؟ وإن فعل جابر لم يكن إلا رفع منزلة الإنسان إلى مرتبة خليفة الله بحقّ، وجعل كل أبواب الخلق والإبداع متاحة أمام العقل الإنساني، حيث لا يوجد مستحيل أمام طاقات الإنسان وقدرته الإبداعية، «فالعالِم بالتكوين الكيميائي عليه أن يقلّد خالق العالَم ومدبّر الطبيعة، إذ لم نقل أنه يأخذ مكانه».

اترك تعليقاً

انت تستخدم اداة مانع الاعلانات

لتستطيع تصفح الموقع بسهولة من فضلك اغلق اداة مانع الاعلانات