قصص و روايات
أخر الأخبار

رواية.. اغتيال كاتب لأنه رأى الفيل

لما بلغ «ماركوف» مقر عمله وبدأ يتفقد مكان الألم لاحظ بثرة حمراء صغيرة في فخذه، وشعر أن الألم يتضاعف ويتمدد، فأخبر زملاءه في العمل عمّا حدث، وعند حلول المساء انتابته حُمى شديدة نُقل على إثرها إلى المستشفى، حيث توفي بعد أربعة أيام؛ حدثت تلك الواقعة عام 1978 حين كان عمره يناهز 49 سنة، وتم تحديد سبب الوفاة بأن مُقدمة المظلة التي وخذتهُ كانت مُشبّعة بحبيبات من سُم الريسين.

الرواية المبتورة

عُرِفت حادثة الاغتيال حينها بجريمة «المظلة البلغارية»، لكن لم يعرَف أحد لماذا تم اغتياله في هذا الوقت تحديدًا، ممّا جعل الكثيرين يسترجعون بدايات هروبه من وطنه بلغاريا والذي حدث عام 1969، وهي السنة التي أصدر فيها عدة أعمال أدبية كان أشهرها رواية «نساء وارسو» والتي سبّبت له شهره واسعة ومكانة مرموقة.

حين نُشرِت «نساء وارسو» في نسختها الأولىَ في بلغاريا، ونسختها الثانية في روسيا، كانت منقوصَه بفعل الرقابة، ورغم إصدارها مبتورة فإنها لاقت نجاحًا أدبيًا، ولكن بدأت الأصوات تتعالي أن الكاتب يُخبِّئ هجومه علي النظام الحاكم بين سطور أعماله ومنها «نساء وارسو» والتي تم بالفعل حذف أجزاء منها بسبب الشك في أنها تتضمن أفكاراً فاسِدة، وحينها بدأ التضييق علي كتاباته وأفكاره وشعر بالقلق، لذلك لاذ بالفرار بعد شهور قليلة إلى بريطانيا، حينها تعالت الانتقادات أكثر، وأصدر الكاتب روايته مرة أخرى بمعزل عن الرقابة، في نسخة كاملة غير مبتورة، ولم يلبث بِضْع سنوات بعدها حتى تم اغتياله.

والحقيقة أنه عندما يتناول القارئ تلك الرواية بنسختها الكاملة لا يجد أي تفسير واضح لسبب منعها، حتىَ أنك إذا أردت الاستعانة بآراء القُرّاء العرب أو حتىَ البلغاريين على موقع Goodreads لفهم ما خبّأه الكاتب، لن تجِد شيء، حيث تتراوح الآراء بين منْ يراها رواية عن الحُب، ومنْ يراها رواية عن سلطة الحكايات والقصص على النفس البشرية، وهناك منْ يشيد بغرائبيتها ويدرك وجود ما تم إخفاؤه لكنه لا يدرك ماهيته؛ مما يجعلك تتساءل هل كان الأمر خدعة تجارية من دار النشْر لجذب القُرّاء؟

الفيل في الغُرفَة

في الواقع لم يكن الأمر خدعة، وإنما فقط يجب الإشارة إلى أنه ليس من السهل فهم هذا العمل الأدبي المميز من بعد زمني يمتد لنحو نصف قرن؛ العمل الإبداعي قادر علي البقاء ولكن تبقى مهمة القارئ مرتبطة بفهم البعد التاريخي والأيديولوجي الذي واكب زمن كتابته، لأن قراءته بمنظور الوقت الحالي لن تُنتِج إلا حكاية روحانية تمتاز بالجانب الأدبي الفلسفي، وذلك على النحو الآتي:

تدور الرواية حول شاب يسافر في بعثة جيولوجية إلى منطقة صحراوية معزولة يُطلَق عليها «تل الشيطان»، وهناك يُحذِّره راع عجوز وحيد يقطن تلك البقعة من أن عليه مغادرة المكان خلال شهر وإلا سينتهي به الأمر منتحرًا على فرع شجرة البلوط الوحيدة الموجودة في الصحراء، ويكون مصير بعثته البحثية نفس المصير الذي لاقته البعثات الثمانية السابقة. وبعد أيام تهرب البعثة ولا يبقي إلا الشاب، وشيئًا فشيئًا يتقارب مع العجوز ويتبادلان الحكايات والذكريات وفلسفتهُما حول الحياة ومتاعهَا، ثم تأتي النهاية بتوقيع من شجرة البلوط.

إذًا ما الذي يستدعي القتل أو العداء؟ وإذا كان ثمة ما يستدعي ذلك كيف يمكننا اكتشافه؟

أتذكر هنا العبارة الإنجليزية Elephant in the room أي «الفيل في الغرفة»، وهي عبارة مشهورة للتدليل على الشيء الواضح الذي يمثل تهديداً ومع ذلك يتم تجاهله عمدًا ولا يريد أحد التحدث عنه، وهذه العبارة تحديدًا هي مفتاح فهم رواية «نساء وارسو»، فالكاتب رأى الفيل ولم يوافق على تجاهله كما يفعل الآخرون بل أراد الحديث عنه والإشارة إليه، وبهذا اختار صف العداء ضد السلطات والذي انتهى بمقتله؛ ولكن يظل السؤال ما هو الفيل الذي أراد الحديث عنه؟ وكيف تمكّن من إخفائه داخل الرواية؟

اللغة الأيسوبية

هي وسيلة اتصال جوهرها نقل معنى بريء إلى الغرباء، ولكنها في ذات الوقت تحمل معنى مفهومًا للمُقربين. استخدمها للمرة الأولى الكاتب الروسي «ميخائيل سالتيكوف»، ومن بعده بعض الكُتّاب الروس للتهكم على القضايا الاجتماعية في ذلك الوقت دون أن تتنبه الرقابة القاسية التي كانت تفرضها روسيا القيصرية حينها؛ لكن بعد عقود بسيطة انتقلت إلى بولندا الخاضعة للإدارة الروسية وصارت اللغة (غير الرسمية) للأدب البولندي، ليتمكّن من مهاجمة السلطات السوفيتية بشكل يمكنهُ المرور من الرقابة والوصول للجمهور، والذي كان بإمكانه التقاط الحقائق من بين السطور.

باختصار كانت «اللغة الأيسوبية» أسلوب أدبي مجازي يواري مقاصِده بين التلميحات والتعبيرات للتملص من الرقابة السياسية. وللتوضيح أكثر سأعرض مثالًا من عمل أدبي بولندي شهير يُدعى The Doll، ونجد فيه الجملة الآتية عن بطل الرواية:

هو والبقيّة قاموا بزرع المحصول الذي نحصده اليوم؛ وفي النهاية ذهبوا إلى مكان ما في حي إيركوتسك.

تم ذكر هذه الجملة في سياق عادي لا يلفت الانتباه، ولكنها في الحقيقة كانت تشير إلى ما يُعرف بانتفاضة يناير وعواقبها السياسية وترحيل المشاركين فيها إلى سيبيريا، وقد التقط القرّاء حينها المعنى بسبب ذكر كلمة «إيركوتسك» وهي منطقة قريبة من سيبريا؛ وكانت الشفرات تسير بين الأدباء والقرّاء على هذا المنوال، أحيانًا تلتقطها الرقابة وتحذفها، وأحيانًا تصِل إلى الجمهور ويفهم مغزاها.

لم يكُن الأسلوب «الأيسوبي» مُنتشِرًا في بلغاريا حيث يوجد «ماركوف» إلا أنه أراد استخدامه في روايته، لمّا وجد فيه القدرة على إيصال الرسائل دون التعرض لبطش السلطات، لذا كانت أول خطوة فعلية أخذها لتطبيق هذا الأسلوب كانت تسميهُ روايته «نساء وارسو»، فقد اختار عاصمة بولندا اسمًا للتلميح بالطريقة «الأيسوبية»، إلى أنه سيستخدم الأسلوب البولندي الأيسوبي في إخفاء هجومُه الأدبي على السلطات.

وبعد أن تعرّفنا على الطريقة التي استطاع بها «ماركوف» إخفاء الفيل، يتبقىَ معرَفة ماهية الفيل (القضية).

البُعد التاريخي والأيديولوجي

تم كتابة الرواية في أواخر الستينيات، حين كان الوضع السياسي في بلغاريا قد وصل لأقصىَ درجات القمع السياسي والاجتماعي، وصارت الدولة ستالينية نموذجية تتميز بحزب واحد ديكتاتوري له شرطة سرية شديدة القوة تقوم بعمليات تطهير دورية لأي شخص يُعارض عِبادة الزعيم الوطني الذي أعطىَ نفسه مكانة شِبه إلهية.

في تلك الحقبة الزمنية كانت الحرية الشخصية جريمة، والتعبير عن الرأي جريمة، والتفكير جريمة، والعيش وفقًا لإرادتك جريمة، ويظهر ذلك في خطاب أرسله عضو في الحزب الشيوعي إلى وزير الداخلية «أنطون يوغوف» يحتج فيه، قائلًا:

هناك عدد كبير جدًا من المتكلمين الصِغار (الشباب) المتغطرسين يجلسون ويستمتعون في المقاهي؛ وبينما العمال يكدحون في المصانع كالمُقاتلين على الجبهة، تجد هؤلاء متأنقين مهتمين بمظهرهم ويجلسون القرفصاء مع سيجارة في أفواههم ويُطعِمون كلابهم المعجنات ويرقصون وينخرطون في الفجور.

كان لذلك الخطاب تأثير واضح، فتدريجيًا صار يمكن سجن الفرد وتكليفه بالعمل الجبري في معسكرات الاعتقال لمُجرد الاستماع إلى موسيقى البوب أو الرقص أو ارتداء السراويل الجينز، حتى أن الاهتمام بالمظهر كان من الممكن أن يؤدي بالفرد إلى المعتقل، فقد كانت لفظة Dandies أي المتأنقين، وصمة في ذلك الوقت، حيثُ لم يكن هناك فرق لدىَ السلطات بين المنشقين السياسين والمجرمين المتشددين والشباب المفتون بمظاهر ثقافية أخرىَ، فجميعهم كان يتم أخذهم إلى المُعتقلات.

كان الأدباء في ذلك الوقت يتم تنميطهُم أيديولوجيًا من خلال إرسالهم في رحلات للاتحاد السوفيتي، كي يتعلموا الكتابة بشكل يتوافق مع الواقعية الاشتراكية والأيديولوجية الحاكمة، وبعد عودتهم تُعقد اجتماعات دورية بينهم وبين رئيس بلغاريا «تودور جيفكوف» يعِد خلالها الكتاب بمساعدتهم بوظائف وإمتيازات وسيارات فارهة في مقابل دعم أسلوب الحياة الاشتراكي، فالأدب هو مهندس الروح البشرية، لذلك يمكنهم أن يكونوا أداة فعّالة في ربط الشعب بقيم وسياسات الدولة.

تكمُن المفارقة هنا أن «ماركوف» كاتب «نساء وارسو» كان أحد هؤلاء المُتأنقين المفتونين بالإطلاع على الثقافات الأخرىَ، الداعمين للحريات الشخصية، الراغبين في امتلاك حياة شبه بوهيمية، لذلك كان ناقماً بشِدة على هذا القمع السياسي والاجتماعي، وازداد ذلك الإحساس حينما تم إدخاله مع الأدباء في الدائرة المُقربة من «جيفكوف» والمراد تنميطهُم.

الإشارة إلى الفيل

نتيجةً لغضبه من محاولة تنميطه، بدأ «ماركوف» في محاولات لخداع السلطات، بتمرير أفكاره من خلال «الأسلوب الأيسوبي»، فرواية «نساء وارسو» التي تبدو للوهلة الأولى عمل أدبي صوفي فلسفي، ما هي إلا انتقاد مباشِر للاشتراكية والقمع والعمل الجبري، وداعيةً للحرية والليبرالية.

كان هدف «ماركوف» الرئيسي من روايته هو إخبار الشعب أن السلطات طمست بمهارة الخطوط الفاصلة بين المطالب الأيديولوجية والرغبات الفردية، وذلك بطريقة ديماجوجية تستغل رغباتهم، فاستطاعت بذلك أن تجعلهم يخدعون ذواتهم ويظنون أنهم يعيشون في ظل سلطة تسعي لخلق مجتمع قائم على تحقيق السعادة للجميع، بينما هو نظام سياسي يسعىَ لخلق مجتمع قائم على تدمير الروحانيات والحريات والرغبات الفردية، وتحويلهُ إلى قطيع من الغنم.

وكان أعظم إنجاز لماركوف هو كشف الاختلاف بين الاثنين خلال أحداث الرواية التي أقامها على شخصيتين رئيسيتين، هُما العجوز راعي الغنم والذي هو رمزية للنظام الاشتراكي والذي يرعى قطيعاً من الغنم (الشعب)، وشخصية الشاب والتي تم استخدامها لتمرير الأفكار الليبرالية المُتحررة.

خلال الرواية لا يُهاجِم ماركوف العجوز بإظهاره شخصية شريرة، وإنما يجعله يبدو كشخصية واهمة، تظن أنها استطاعت تحقيق الحياة السعيدة التي كانت تظن أنها تطمح إليها، وعلى النقيض يرسم شخصية الشاب الذي عاش في وارسو حياة متحررة، حقّق فيها فرديته وخلق تجربته الحياتية كما يتمناها، على عكس العجوز الذي ظن أنه حقق فرديته لكنه اكتشف في النهاية أنه تم إيهامُه بأنه حققها.

في بداية الرواية كان العجوز قد حذّر الشاب من أنه سينتحر على شجرة البلوط، ومع قليل من البحث يمكننا معرفة أن شجرة البلوط لدى الشعوب السلافية التي ينتمي إليها البلغاريون والبولنديون تعني «شجرة الحياة»، وكأنها رمزية لنظام الحياة المنشود، وكأن شجرة البلوط هي الفيصل الذي سيحكم أي «نظام حياة» هو الأفضل فالعجوز (الاشتراكية) كان يرىَ أن الشاب (الليبرالية) ستحكم عليه شجرة الحياة بالموت.

لم يتوقف ماركوف خلال الرواية عن إرسال الرموز والتلميحات «الأيسوبية» للقُرّاء، وحاول إيصال رمزية «الفيل في الغُرفة» طوال السرد، حيثُ ذكر كلمة «الفيل» أكثر من 10 مرات في سياقات متباينة لا تستدعي ذكر هذا المخلوق، فعلي سبيل المثال خلال حوار دار بينه وبين فتاة يقيم معها علاقة داخل غرفتها، قالت فجأة:

من المؤكد أنك لن تصدقني إذا أخبرتك بأنني أمتلك فيلًا؛ فيل عملاق، فالمعنى الحقيقي لا يكتمل إلا بامتلاكك فيلًا.

قد يبدو هذا الحوار عبثيًا، إلا أنه لم يكن إلا تلميحًا أن تلك الفتاة التي سيتم سجنها خلال أحداث الرواية بسبب هجومها على وزير الداخلية- قد رأت الفيل– وحتى لا يغيب المعني على القارئ جعلها «ماركوف» تصِف الحكومة بأنها ديكتاتورية فاسِدة وأن الحكام ماكرون، والغالب أن هذا الوصف لم يكن موجوداً في الطبعة الأولىَ التي صدرت في بلغاريا، وتم إضافتهُ فيما بعد في الطبعة البريطانية.

ويستمر في انتقاد سياسة الاشتراكية الوهمية التي تتبعها السلطات بأسلوب «أيسوبي»، فيجعل الفتاة تتحدث قائلة:

على الإنسان أن يعيش من أجل الآخرين؛ ولكن أين هُم الآخرون؟

ويُعلِّق على كلماتها من خلال شخصية البطل بأن هذه الكلمات مُفرغة لا معني لها؛ بينما في الحقيقة كان «ماركوف» يقصِد الإشارة إلى أن الحكومة تستغل فكرة الاشتراكية لإيهام الشعب بأن يعملوا ويستمروا في العمل من أجل أمة اشتراكية، بينما يتم تحويلهم إلى غنم تدريجيًا، وتلك الأفكار التي عانى الكاتب من أجل إيصالها بأسلوب أدبي ذكي، كان قد أعلنها بصراحة مُباشرة فيما بعد بكل جُرأة حين قال:

لقد رأينا نحن البلغار كيف تختفي الشخصية، وكيف يتم تدمير الفردية وإفساد الحياة الروحية للشعب وتحويله إلى قطيع من الغنم؛ رأينا التجمعات التي تُهين كرامة الإنسان حيث يُتوقَع من الناس أن يصفقوا لبعض التافهين الذين نصبوا أنفسهم أنصاف آلهة.

في النهاية يجب التأكيد على أن هذا العمل الأدبي يستدعي ضرورة اتخاذ زاوية معينة خلال القراءة للوصول إلى المقصِد الحقيقي، ومن دون هذه الزاوية الصحيحة سيظِل هذا العمل يبدو باردًا وفارغًا؛ لقد بذل «ماركوف» مجهودًا كبيرًا في استخدام لغة تلك السنوات الثورية لإيصال المعني للقُرّاء، وعلى منْ يرغب في التقاط هذا المعنىَ بذل القليل من الاجتهاد في استقراء تلك الحِقبة.

لقد جعلت تركيزي كاملًا خلال هذا المقال على تقديم السياق التاريخي والسياسي حتى تتضح الرؤية أثناء القراءة. لذا عزيزي القارئ إذا كنت قد قرأت الرواية ولم تفهم المغزى فهذا هو قد بيّنَاه، وإذا لم تكُن قد قرأتها فالمقال سيكون بمثابة عكازك لاستقراء بواطن الرواية، وليس فقط قراءتها كعمل عبقري من الناحية الفنية.

اترك تعليقاً

انت تستخدم اداة مانع الاعلانات

لتستطيع تصفح الموقع بسهولة من فضلك اغلق اداة مانع الاعلانات