قصص و روايات

رواية.. الفن ذاكرة الإنسان

لا يوجد خلاف على أن الفن بشتى أشكاله هو الوسيلة التي يعبر بها الفرد عن مدركاته وأفكاره التي تجول بخاطره. فالفن سواء سينما أو شعرًا أو أعمالًا أدبية، أو لوحات –كما سيتم تناول ذلك بالتحليل- تعد جميعًا أدوات يعمد معظمنا في وقت من الأوقات إلى اللجوء إليها سواء للتعبير عما يجول بخاطره، أو من أجل إيصال فكرةٍ ما لأشخاصٍ آخرين أو لفئة معينة منهم.

والأعمال الفنية وخصوصًا اللوحات تعد من أهم تلك الأدوات التي عبّر من خلالها الكثير من فنانيّ العصور المختلفة المتعاقبة عن آرائهم ومواقفهم إزاء القضايا المتنوعة التي تفرضها عليهم طبيعة مجتمعاتهم في شتى المجالات.

وبالنسبة لما سأتطرق لتحليله، فهي عبارة عن مجموعة لوحاتٍ للفنان الكندي «وليام بالفور كير – William Balfour ker»، قام برسمها في بدايات القرن العشرين.

ومن أجل فَهم طبيعة هذه اللوحات ورمزيتها وعلاقتها بالأفكار السياسية التي طرحها كير، يجب علينا في البداية أن نتطرق إلى طبيعة السياق المُعاش آنذاك.

وليام بالفور كان معروفًا بنزعته الاشتراكية، فهو لا يؤمن بمبادئ الفكر الرأسمالي، وكان يرى أنه الطريق الأسهل لتحطيم حضارة العالم من خلال تحويل البشر إلى مجرد آلات تعمل في ظل نظام لا يتوانى عن تعميق الفجوة بين الأغنياء والفقراء. وهو الأمر الطبيعي بالنسبة لفرد ولد لأسرة ذاتَ أصول مهاجرة، حيث إن عائلة كير كانت قد هاجرت من الولايات المتحدة الأمريكية عام 1880. ومن أجل فَهم الرؤية التي يتبناها بالفور بعمق، سنحتاج لفهم معنى الاشتراكية.

مفهوم الاشتراكية يشير إلى المنطق الذي يسعى لتغليب الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج. فالفكر الاشتراكي يسعى لتمكين الطبقة العاملة أو الكادحة، من خلال إعطائها حقوقًا تماثل حقوق أصحاب المصانع ورأس المال وغيرها، فهذا المفهوم قد ظهر كرد فعل لفكر آدم سميث وديڤيد ريكاردو وغيرهما. كما أنها تهدف إلى خلق مساحة أكبر لمشاركة كافة الأفراد في عملية ممارسة السلطة من خلال الأدوار المختلفة التي تسير وفقًا لإشراف وتوجيه الدولة. وبالنسبة لهذا المفهوم، نجد أنه توجد درجات متفاوتة منه، فمثلًا هناك الاشتراكيون الأكثر حدة في تنفيذ مبادئهم، وهناك أولئك الذين يرغبون في الوصول إلى حلول وسط بين أصحاب الرؤى السياسية المختلفة.

ومن ثم نجد أن تلك الأفكار التي تبناها بالفور كير تتجلى بشكل كبير في لوحاته وهو الأمر الذي سيتم عرضه كالآتي:

هذه اللوحة تم رسمها في عام 1905، وقد اعتمد كير في هذه اللوحة والتي تعد من أشهر أعماله على الإطلاق، على الثنائيات التي ترمز للفصل المتعمد بين عنصري اللوحة الأساسيين، حيث نلاحظ فيها عدة نقاط:

  1. 1. ثنائية اللونين الأبيض والأسود، حيث تشير بشكل كبير إلى التباعد بين العنصرين الأساسيين لهذه اللوحة: الفقراء من الطبقة الكادحة، والأغنياء من الطبقة المُرفهة البرجوازية. فالأبيض هو أقصى شكل من أشكال الألوان المُشرقة، يُقابله الأسود وهو أقصى أشكال الألوان الداكنة تمامًا كحال تلك الطبقتين اللتين يبرزان في اللوحة.
  2. 2. ثنائية الأماكن، فاللوحة مقسمة إلى جزءين بينهما حاجز (ألا وهو الأرض التي تفصل بين الكادحين والبرجوازيين) فعلى الرغم من كونهم مجتمعين على ذات الأرض، فإن هذا الفاصل البارز يوضح بشدة اختلاف عوالم هؤلاء البشر وانفصالها عن بعضها البعض، فهناك العالم العلوي المُرفه الذي يستمتع بوقته كثيرًا في هذه الحفلة الراقصة داخل القصر الفخم، وهنالك العالم السفلي المسحوق الذي لا تظهر له أي ملامح سوى السواد شديد القتامة الذي يغلف خلفية الأفراد فيه، وهو ما يشير إلى التناقض الجذري بين البرجوازيين والطبقة الكادحة الذي رسخته أوضاع المجتمع الرأسمالي الذي يمكن التعبير عنه برغبة الطبقات الفقيرة في الحصول أيضًا على نصيبها من السعادة Why should not we have our dance؟
  3. 3. تشير اللوحة إلى مفهوم الثورة بمعناه الاشتراكي. فالثورة ستحدث لا محالة، في ظل مجتمع يُعمق الفجوة بين الطبقات، فالغني يزداد غنى والفقير يزداد فقرًا. بهذا المنطق نرى التمرد الذي تقوم به الطبقة الكادحة على القلة الثرية التي تستحوذ بطبيعة الحال على كافة موارد الدولة.
  4. 4. وعلى الرغم من ذلك نرى التباين الجلِي بين أفراد الطبقة الواحدة، فمع دهشة أغنياء الحفل وعدم تصديقهم لما يحدث من ثورة ومحاولة الوصول إليهم عن طريق الخروج من أسفل الأرض، نرى أن أفراد الطبقة الكادحة أنفسهم تتباين ردود أفعالهم، حيث نجد من يحاول أن يحول دون أن يحقق المتمرد مهمته من الوصول إلى الأعلى، كذلك نجد علامات الخوف والذعر واضحة على وجوههم بشكل عام. وهو ما يتطابق مع مفهوم البروليتاريا الرثة الذي نظر إليه ماركس، حيث تحدَّث عن فئة معينة تكون خارج إطار العملية الإنتاجية تعتمد في تأمينها لحاجاتها على طرق غير مشروعة كالسرقة والنهب، واعتبر أن هذه الفئة هي العدو الأخطر للثورة والثوار، والعائق الأهم في طريق تحقيق الإصلاح السياسي والاقتصادي.
  5. 5. على الرغم من تزاحم عناصر اللوحة، فإن التركيز كله ينصب على اليد التي تحطم الحاجز وتطالب بالحرية، وملامح الرجل غير المُصدق لحقيقة ما يراه.

في هذه اللوحة نجد أنه أبرز بشكل كبير مفهوم اكتناز الثروة في يد أقلية معينة. فبالنسبة للمجتمع الرأسمالي يكون التحكم في رؤوس الأموال والأصول الإنتاجية حق مكتسب لدى أصحاب الأعمال، دونًا عن بقية أفراد المجتمع من العاملين والفلاحين وغيرها من مختلف الفئات[

وبالنسبة لرمزية العنوان فهي تحمل تنبؤًا يمكن اعتباره مكمّلًا للوحة السابقة، في أن الفئات المتباعدة ما بين أقصى الفقر والعوز والحاجة إلى أقصى الغنى والتملك والسلطة، ستتواجه عندما تتلاقى فيما بينها على هيئة صراع يحاول فيه السواد الأعظم من المجتمع أن يسترد حقوقه الطبيعية من خلال المطالبة بتوزيع عادل للثروة.

على الرغم من رمزية هذا الصراع فإننا نجد وفقًا لطريقة ضم الأيدي الظاهرة في اللوحة بوضوح، ما يعبر عن التوسل والإلحاح في الطلب، على الرغم من كون هذا المال ملكًا أساسيًا لهم، إلا أنهم لا يعتبرونه من حقهم، بل هو مزية يجب التوسل من أجل الحصول عليها! لعل هذا ما يفسر حقيقة وجود علاقة بين الجهل والاستعباد والسلطوية، فنرى أن تركز السلطة في أيدي قلة قليلة مستبدة يتم تغذيته وتدعيمه من خلال وجود مجتمع غير واعٍ، تتداعى لديه قدرته على التمييز من ناحية، وعلى المطالبة بحقوقه بشرف وكرامة من ناحية أخرى.

عندما تتحول الحرية إلى حلم بعيد المنال، لا يقدر عليه من ينخرط في المجتمع الرأسمالي الذي لا يعرف لغة سوى لغة المادية، مجتمع تتركز فيه السلطات في أيدي القلة التي لا تفكر سوى في زيادة ثرواتها، لتغدو بذلك الشمس التي تسطع عليهم لتضيء لهم حياتهم،ـ هي مجرد رمز للمال (الدولار) وينهار بذلك تمثال الحرية وسط لا مبالاة، بل وعدم اهتمام حقيقي بما تؤول إليه الطبيعة البشرية لأفراد مثل هذه المجتمعات.

لوحة للفنان والرسام الأمريكي بلفور كير

في ظل مجتمع يقود الفرد فيه إلى التفكير فقط في الجانب المادي وإهمال كل ما هو قيمي وإنساني، يتحول الفرد إلى آلة صماء، ترس من تروس النظام الذي لا يتوانى عن استغلاله ومشاهدته وهو يفقد كل صفاته الإنسانية، ليتحول إلى مجرد جسد يعمل ويعمل حتى يحقق الهدف من وجوده في هذه الوظيفة أو تلك، ومن أجل مواكبة العصر الذي يتمتع بسرعة لا يمكن وصفها حيث يفنى عمره وهو يحاول أن يحقق ما لا يعلم أهميته، لمجرد أن يحقق لنفسه الحد الأدنى من احتياجاته المادية، التي يقايضها وهو لا يدري بإنسانيته وحقوقه وحرياته.

كما تتجلى في هذه اللوحة فكرة الفردانية، فالفرد في ظل مجتمع كهذا سيحيا وحيدًا، وستنهار كافة الروابط الإنسانية التي تجمعه بغيره من بني جنسه، فستتداعى علاقات الصداقة وتنهار، ويصبح الفرد وحيدًا يسعى دومًا لتحقيق ما يؤمن احتياجاته الأساسية فقط دون أن يتشكل لديه طموح أو رغبة في التواصل وإحداث التغيير. فيتحول الفرد إلى طرف في سباق أبدي ينسحق فيه إذا توقف لحظة لالتقاط أنفاسه.

اترك تعليقاً

انت تستخدم اداة مانع الاعلانات

لتستطيع تصفح الموقع بسهولة من فضلك اغلق اداة مانع الاعلانات