قصص و روايات

رواية.. رحلة قارئ

ربما هذا أحد أغرب السيناريوهات لافتتاحية عام جديد من القراءة. تسألني صديقة أن أبحث لها عن اقتباس لا تسعفها الذاكرة منه بسوى فكرته في عمل من 300 صفحة. طلبٌ في حد ذاته غريب والأغرب كان التعثر فيه بسهولة بدت مريبة.

بعدها، وكما هو متوقع بالنظر لكسلي، قضت الرواية ليلتها أعلى كومة الكتب بجانب السرير، في خلال ذلك لم أتوقف عن استراق النظرات لها بين فينة وأخرى، منازعة دافعًا غامضًا لقراءتها لم أصمد أمامه على أي حال سوى ليلة وحيدة؛ ﻷني في اليوم التالي تناولتها وشرعت في قراءتها.

ربما يبدو الأمر مبالغًا فيه، لكن لهذه الرواية تاريخ مأساوي معي. كانت البداية حين قُرِّرَت في جدول للمناقشات في إحدى المجموعات المتعلقة بالكتب، كانت تجربة أولى مع الكاتب؛ لذا بدأت مطالعتها بغير أحكام مسبقة، لكن سرعان ما مللتها فتركتها، ثم أجبرت نفسي على قراءتها. لكني تهللت لتأجيل المناقشة فابتعدت عنها ثانية، وحين حُدِّد موعد جديد للمناقشة كانت قد مرت فترة سهوت فيها تمامًا عن الأمر، فعدت للقراءة – للمرة الثالثة – مضطرة، وأعتقد أن هذه هي المرحلة التي تخطيت فيها جزءًا غير هين من النص مهادنة لرغبتي في تركها نهائيًّا والاعتذار عن المناقشة. هكذا وصلت للربع الأخير من العمل والذي كنت أظنه الأكثر ثراء فيما استطعت قراءته منها – لكني أرى الآن أنه امتداد طبيعي لسياق الرواية، لكن نظرتي الضيقة وقتها هي التي حرمتني من إدراك الثراء فيما سبقه من أجزاء – مستحسنة بعض الأفكار، أو قدرتي على فهمها بتعبير أدق.

ربما أفضل ما في ذلك كله كان النقاش في ذاته، حيث تنفتح أمامك آفاق لم تكن تراها من قبل، ويثير تعدد الآراء رغبة أقوى في الفهم والاستقصاء لكل احتمال يذكره أحد الأطراف، أو تأويل لفكرة كنت تعتقد أنها بديهية الوضوح وأخف من أن تحتمل الاختلاف حولها. لذلك، وحتى عدة أيام مضت، كنت مقتنعة أني لم أحب الرواية لكن مناقشتها مع الأصدقاء هي ما أحببت.

من هنا تبدأ حكاية مختلفة تمامًا؛ فمع القراءة الثانية، ومنذ الصفحات الأولى لمست الفارق الشاسع بين القراءتين: أولًا، هذه المرة كانت وليدة صدفة متحررة من كل مسئولية واضطرار. ثانيًا، يبدو أن عامل التوقيت كان مهمًّا وهذه المرة كان في صالحي. ثالثًا، بعكس حالة الانغلاق والقراءة السطحية في المرة الأولى؛ كانت الثانية شديدة السلاسة والجاذبية على غير ما يمكن توقعه.

هذا عن تجربة القراءة، أما عن العمل ذاته، فهو واحد من النصوص التي تدحض إمكانية الادعاء بأن الروايات مضيعة للوقت، فما الذي بوسع الرواية أكثر من أن تكون صوتًا للحالة الإنسانية، بأفكارها وفلسفاتها ومشاعرها وتناقضاتها؟! ما الذي يمكن أن تكونه أبلغ من كونها لا نموذجًا؛ وإنما تسجيلًا حيًّا لمحاولة الإنسان؟ أن تكون سردًا لسيناريو المحاولة الدءوب لمجاراة تبعات كون الإنسان كائنًا مخيرًا، هو قمة الإنجاز في رأيي.

بالنسبة لشكل الرواية: فالكاتب اعتمد أسلوب الحكاية والاسترجاع لكن بمحاور مزدوجة، مما جعل النص أقرب للخيوط التي تتداخل وتنفصل بالتتابع منه لخط محدد، فهو يحكي الموقف من جهة طرف ثم يعود لتناوله لكن بحكاية الطرف الآخر له، مفسحًا لكليهما المساحة للتعبير عن مشاعره ومباعث أفعاله، ولك كقارئ المجال لتكوين رأيك الخاص، وهي مهمة لا ينبغي الظن عبثًا بسهولتها. فمنذ اللحظة الأولى يعلن الكاتب توليه مهمة الرواية، وهذا نوع من التصريح في نظري بالطبيعة ثلاثية الأبعاد للعمل، فهي تجربة طرفها الأول الراوي، وكونه الكاتب يعطيه الحق في التعليق والتنويه، والاقتطاع من تسلسل الحكاية للوقوف على بعض آرائه وتحليلاته؛ ربما يبدو أحيانًا متطفلًا أو حتى انحشاريًّا، لكن ذلك يغدو مفهومًا بالنظر لتعليله الخاص:

ستكون سذاجة من قبل الكاتب أن يجعل القارئ يعتقد أن شخصياته وجدت فعلاً.. لا، هي لم تخلق من جسد امرأة أم؛ بل من بضع جمل موحية أو من موقف محرج.

أما البعد الثاني فهو العالم الذي تعيش فيه الشخصيات، الملعب الذي تبقى أنظارنا وتركيزنا متعلقة به متابعة ﻷدق الحركات فيه، حيث الشخصيات والأحداث والتأملات.

وفي النهاية، أنت، القارئ أو اللاعب الروحي الذي يؤثر في القصة بتفاعله معها. بين هذه الأبعاد الثلاثة تحيا الحكاية، وإن ذكرت أن القارئ لاعب روحي فليس في ذلك مبالغة بالنظر للبنية الفلسفية للعمل؛ ليست الأفكار وحدها المهمة، وإنما أيضًا فكرتك عنها ونظرتك إليها التي بالتأكيد سيكون لها تأثير واضح على ما يرتبط بها فيما يلي من منعطفات ومواقف.

أما عن المضمون، فيقول كونديرا في سياق أحد استطراداته:

لا توجد وسيلة لنتحقق أي قرار هو الصحيح؛ ﻷنه لا سبيل ﻷي مقارنة، كل شيء نعيشه دفعة واحدة، مرة أولى ودون تحضير.

ربما هذا تحديدًا ما حاول التغلب عليه هنا، مشكلة الحياة الواحدة، بخلق مسرح تظهر عليه ثلاث ثنائيات ناتجة من ترابط أربع شخصيات رئيسة بدلًا من مجرد واحدة، هي جميعًا «إمكاناته الشخصية التي لم تتحقق. ذلك أن كل واحد منهم عبر حدودًا ليس في مستطاعي سوى الالتفاف حولها».

لكنه حتى وإن استطاع إيجاد سيناريوهات متعددة، لم يخبرنا أيها الأحق، أو إن كان وجود هكذا تصور ممكن من الأساس؛ لذلك نجدنا في حيرة وشعور لا يستهان به من العجز عن الانحياز لطرف بعينه على طول الخط، فكما تتقاطع خطوط الحكاية تتقاطع معها أفكار الأشخاص ومصائرهم، وهذا ليس مما يسهِّل علينا اتخاذ مواقف واضحة، فشخصياته تأرجحت بين الخفة والثقل، إما لترددها الشخصي أو تأثرًا بتبعات انتماء شريكها لطرف مناقض لطرفها الخاص.

توماس مثلًا، كان دائمًا مشتتًا بين الخفة التي ينتمي لها وبين ثقل حبه لتيريزا، بينما فرانز عاش وجودًا مثقلًا لكنه انتهى نهاية هزلية في سعيه إثر خفة سابينا!

هكذا نجدنا هنا نكمل سعيًا مستمرًا خلف سؤال يبدو من المستحيل الجزم بأفضلية أي من إجاباته المطروحة على الإطلاق؛ ﻷنها جميعًا مركبات معقدة حائرة بين رغباتها الخاصة وبين ما ليس منه بد تمامًا كحالنا.

لكن سؤالًا آخر أيضًا يحيرني: هل قراءة ثالثة ستفي بالوصول للإجابة؟ ربما لن أكتشف ذلك إلا بخوض غمارها قريبًا!

اترك تعليقاً

انت تستخدم اداة مانع الاعلانات

لتستطيع تصفح الموقع بسهولة من فضلك اغلق اداة مانع الاعلانات